البحوث الفلسفية في تونس: نظام الحكم الجمهوريّ وحكم النظام الفلسفيّ
قد يعجب البعض بمدى اهتمام المثقفين العرب في الثلاثينات بأوغست كونت وروسو. تكفي العودة إلى هذا الفيلسوف الفذ لكي ندرك مدى أهمية أضافته الفكرية وعمق تحليله الإيبستيمولوجي والسياسي. وقد كان لدراسة زينب بن سعيد الشارني لمحة لافتة حين بيّنت الترابط العضوي في فلسفة أوغست كونت بين نظام الحكم السياسيّ ونظام القول الفلسفيّ . فعلا، كان الميتافيزيقيون، بعيد الثورة الفرنسيّة، أهم أنصار النظام الملكيّ المحافظين على التوزيع الهرميّ للسلطة والترتيب الهرميّ للكائنات والعقول. أما الوضعيّون، أمثال أوغست كونت، فقد تجنّدوا للدفاع عن النظام الجمهوريّ. فقد تمترس فكر الديمقراطية من خلال نقد الميتافيزيقا والفكر المثاليّ عموما إذ كثيرا ما كان هذا الأخير أساسا نظريّا وحصنا عمليّا للأنظمة التيوقراطيّة التي ترى أن مصير الجماعة موكول إلى نباهة راعٍ هو « ظِلّ اللّه على الأرض » أو الرئيس الذي بصلاحه تصلح الملّة وتسـعد المدينـة وبزَيْغـه عن الحق ّ تبقى الأمّـة في ضلال مبين .
لذلك، فقد اقترن انبعاث الديمقراطية العصريّة بسقوط الأنظمة الكليانيّة وبتقويض أسسها الميتافيزيقيّة التي طالما اعتُبرت طبيعيَّةَ الكيان وإلهيّة المصدر. تبدو مهمة الميتافيزيقا السياسية إذن وكأنها المرجع النظري الملهم لنسقٍ فوقيٍّ يستمد « نموذجه الإرشاديّ » من خلق اللّه للعالم، وكأن التيوقراطيّة إنما هي تجسيم لنظام الكَوْن ولسُنّة اللّه في خلقه.
يبدو هذا الربط بين الميتافيزيقيا والسياسة جليّا في فلسفة أفلاطون والفارابي حيث لا فصل بين تناسق العالم ونظام المدينة. نظام العالم أو الكسموس يخوّل تعيين نظام المدينة بحيث تتأسّس الحكمة العمليّة انطلاقا ممّا تمليه الحكمة النظريّة. فالتراتب عند أفلاطون والفرابي فضيلة من فضائل المجتمع الصالح مثلما أن النظام سنّة من سنن الكون. لذلك، تمثل المعرفة العلويّة ضمانا للمعرفة الدنيويّة، ويمثل العروج إلى المدينة الإلهيّة تمرينا أساسيّا في قيادة المدينة الأرضيّة التي تتكوّن بدورها، عن طريق المحاكاة، على شاكلة مدينة الكوسموس.
لقد تطوّرت هذه العلاقة العضويّة بين الميتافيزيقا والسياسة، حسب أوغست كونت، بانتقال العقل البشري من مرحلة طفولته التي كان فيها تفكيره لاهوتيا إلى مرحلة شبابه التي تفطّن فيها لخصوبة الفكر الميتافيزيقيّ ليتوصل العقل أخيرا إلى إدراك نجاعة الفكر الوضعيّ الذي يقطع مع الأسئلة الميتافيزيقيّة ليهتمّ بالبحث في طبيعة الواقع بالعودة إلى العلاقات الرمزيّة التي تعبّر عنه أحسن تعبير.
كان أوغست كونت حريصا على الربط بين التزامه الفكريّ وموقفه السياسيّ إذ كان يقول إنّه من الضروريّ على المفكّر أن يختار الفلسفة التي يرشح نفسه للدفاع عنها. فلكل فلسفة، حسب رأيه، مفترضات سياسيّة لا بدّ لنا من إدراكها والتفطّن لعلاقتها الإنشائيّة مع الفكر الفلسفيّ. وهكذا، فإذا كان الفكر الميتافيزيقيّ مرتبطا بالمنحى الملكيّ فإنّ الفكر الوضعيّ يعبّر عن طموح الجمهوريين .
تعلن الديمقراطية عن ولادة عصر جديد يقترح فهم « نظام العالم » تبعا لقواعد « عالم النظام » . إنّه عصر يضمن للفرد حقّه في أن يكون الكائن الفاعل الذي « يخضع، كما يقول روسو، إلى القانون الذي وضعه لنفسه »، ويلتزم من خلاله باحترام حقّ الآخرين في الاختلاف معه في العقيدة والرأي وأسلوب الحياة. وكأنّ جوهر الديمقراطية إن هو إلا تكريس للفرديّة وضمان لخصوصيتها وتثمين لوجودها.
يعني ذلك أن لكل سياسة فلسفة سياسية تؤسسها، ولكل مجتمع مشروعا اجتماعيّا يُشرّع لحريّة الفرد أو يولي الجماعة أولويّة الاعتبار والنفوذ. يعني ذلك أنّه لا يمكن لأي أمة من الأمم أن تَدَّعي الاستعاضة عن الفلسفة، سياسيّة كانت أو ميتافيزيقيّة، لا لشيء إلا لوجود تلك العلاقة العضويّة بين النظام السياسيّ والنظام الفكريّ، وكلاهما إنسانيّ المنشأ والصيرورة. تلك علامة من أهم علامات الحداثة المقرّة بضرورة التعاقد والتفاهم بغية تنظيم الحياة المدنيّة والفرديّة والاجتماعيّة.
لم يكن هذا التمفصل الأساسيّ بين نظام الحكم ونظام الفكر ابتداعا من إحداث أوغست كونت بل هو مبدأ فكريّ سياسيّ عمل فلاسفة مثل هوبز ولوك وسبينوزا وروسو على رسم معالمه من خلال فلسفات العقد الاجتماعي.
يتّفق كلّ من هوبز ولوك وسبينوزا وروسو حول القول إنّ أساس السلطة السياسيّة متمثّل في نقل حقّ المجموعة المطلق إلى طرف ثان يمثّل الدولة. يعني ذلك أنّ المجموعة تتخلى عن حقها الطبيعيّ في استعمال العنف والدفاع عن النفس لتنقل عن طريق العقد الاجتماعيّ ذلك الحق إلى من يمثلها ويحفظ أمن وحياة أفرادها. لا يخلق الميثاق الاجتماعيّ، حسب لوك، أي حقّ جديد إذ هو اتفاق بين أفراد اجتمعوا ووحدوا قواهم من أجل وضع القوانين الطبيعيّة موضع التطبيق. فمن هذه الزاوية، ليس المجتمع إلاّ سلطة سياسيّة أكثر فعاليّة واستقرارا من حالة الطبيعة. فللشعب قدرة على التفكير الرصين وعلى الحكم والفعل الحرّ. في الشعب يتجسّم الحقّ الطبيّعيّ. يتحدد مفهوم الشّعب حسب لوك أكثر فأكثر حين نقدر على التمييز بين مصالح الشّعب ومصالح الحكّام. يرى شارح جون لوك، ريمون بولان في هذا الصدد، أنّ تعريف خير الشّعب أسهل من تعريف الشّعب نفسه. فالشّعب ليس قطيعا من المخلوقات الدنيا التي ليس لها عقل والتي تعيش تحت سيطرة سيّد يتسلّط عليها بل الشّعب مجتمع من المخلوقات العاقلة والقادرة على الحكم والقصد والإرادة والفعل والالتزام. يحتفظ الشّعب دائما بحق التخلّص من كلّ من أصابوه بأذى (حتى وإن كانوا من الحكّام) وممّن اعتَدوا على القانون الأساسيّ المقدّس المتمثّل في المحافظة على الذّات . فالمصلحة العامة أساس الحكم السياسيّ وغايته القصوى .
بهذا المعنى كانت إرادة المناضلين الذي خرجوا في مظاهرة حاشدة يوم 9 أفريل 1938 مطالبين « ببرلمان تونسي » تعبيرا عن إرادة الشعب التونسي الطامح إلى مطابقة فلسفة التعاقد التي ارتآها لواقع التفاهم في سياق برلمان يحفظ له حقه الاجتماعي في العيش الكريم. لذلك يكتسي عيد الشهداء في تونس اليوم دلالة لا يتيسر الاستهانة بها. فقد مات يوم 9 أفريل 1938 عشرات التونسيين دفاعا عن فكرة البرلمان التونسي التي لا تزال إلى اليوم مفخرة كل تونسيّ صادق. تلك هي فكرة التعاقد التي تجعل قاعدة الحوار والتشاور والتداول أساس سلطة الشعب ومرجع الاتفاق ومطلب الاجتماع ومحفز الفعل، فلا غرابة إذن أن تكون تونس بلد التعاقد والتمدّن والحداثة. ذلك قدرها وتلك مهمّة الراشدين فيها والعاملين على الرقي بها إلى مستوى تضحيات أبطالها الأفذاذ.
نقول ذلك لكي نؤكد أن ممارسة الفلسفة العمليّة في بلادنا ليس افتراضا أو تخمينا لا علاقة له بواقع الثقافة الوطنيّة التي أسهم التونسيون في ترسيخها عبر دفاعهم عن المؤسسات المدنية وتدريسهم للفلسفة منذ الاستقلال والعمل مند سنة 1976 على تداولها باللغة العربيّة. فإن ارتبطت عودة التونسيين إلى الفلسفة -بعد أن انقطعوا عنها مدة ستة قرون (منذ ابن خلدون)- باستقلال تونس سنة 1956، فإن تطوّرها وازدهارها قد تلازم مع تعريب تدريسها.
لعب الأساتذة الفرنسيون، الذي اضطلعوا بتدريس الفلسفة منذ بداية الاستقلال، دورا أساسيّا في تكوين الأجيال الأولى في مجال الفلسفة تكوينا جعلهم قادرين على فهم قضايا الفكر الإنساني وإدراك تفاصيله دون عناء ولا معوقات. فقد اطلع طلبة الفلسفة من الجيل الأوّل على أمهات النصوص الفلسفيّة الإغريقيّة والحديثة والمعاصرة. واللاّفت أن هذا الجيل الأوّل من التونسيين الذين تتلمذوا على الفرنسيين كان مسكونا بدوره -من جهة ارتباطه بثقافته المحليّة ومعرفته الدقيقة للثقافة الفرنسيّة- بهاجس التأصيل. وقد كانت إرادة التأهيل عنده سابقة على إرادة التأصيل. فليس غريبا إذن أن يعمد جل المشتغلين في الحقل الفلسفي في تونس بنشر أعمالهم باللغتين وأن ترى الجيل الثاني من المتفلسفين في تونس يوجه اهتمامه في اتجاهين متكاملين بحيث ترى كل واحد منهم يختص في فلسفة حديثة أو قديمة ويطوّر بحوثه واهتمامه ودراسته عبر فلسفة قديمة أو حديثة أخرى.
فعلا، مثّل تعريب الفلسفة سنة 1976 تحوّلا هاما في سياق الفكر الفلسفيّ في تونس. إذ وَجَدَ المتفلسفة أنفسهم بين لغتين ونمطين من القول والتفكير متراوحين بين ضرورة التأهيل ومطلب التأصيل. ليس هذا الأمر غريبا، فقد كانت وضعيّة تونس دائما بين الشرق والغرب وبين المحيط والخليج وبين الثقافة الأوروبية ولغاتها والثقافة العربية ولغتها. وليست هذه الوضعيّة معيقة في سبيل تكوين شخصيتها بل هي على النقيض من ذلك تماما، حافز لتجديد الثقافة واللّغة وتأهيلهما وتطويرهما لجعلهما قادرتين أن تكونا طرفين معبّرين عن جدّة المعرفة وتنوّع قضاياها. لذلك ليس غريبا أن يشعر المتفلسفة في تونس أن وضعيتهم شبيهة بوضعيّة ذلك الإله الإغريقي هرماس، إله التواصل والمسافرين والتجار (تعني commercer في فرنسيّة القرن السابع عشر التحاور وتبادل الرأي). فوضعيّة هارماس إنّما هي وضعيّة من كان بين بين. فهو المُؤَمَنُ على حفظ المعايير والمقاييس، وفي نفس الآن، حامي المتحايلين وقطّاع الطرق. هذه الوضعيّة إنّما هي وضعيّة المترجم عموما. فالمترجم وسيط، والوسيط مؤمن على إنجاح العمليّة التي يقوم بها أو على إفشالها. ترجمة نصوص الفلسفة الغربية عمل أساسيّ يضمن التعبير عنها بلغة عربيّة تشارك في الحوار الفلسفي الكونيّ الذي لا يزال العرب غائبين عنه لانحباسهم القاتم في قضايا التأصيل المقصي للآخر والمعارض بين الماضي والحاضر معارضة الحياة للموت. لذلك فنادرا ما تجد من بين المختصين في الفلسفة في تونس من بقي مهووسا بفلسفة واحدة ومهتما بفيلسوف غربي حديث دون أن يركز اهتمامه من جهة أخرى على فيلسوف عربي قديم، والعكس بالعكس. فمحمد محجوب مثلا درس أفلاطون من زاوية نظر هيدغريّة وعمد إلى تطوير معرفته لشتى المدارس التأويليّة الحديثة، لكنه كتب عن الفارابي وترجم نصوص روسو وهيوم ومرلو بونتي. اختص حمادي بن جاب الله في فلسفة كانط، وكتب أطروحة عن ديكارت وغاليلي ونيوتن، لكنه ترجم هنري بوانكاري كما كتب عن ابن رشد. أما فتحي التريكي، فبعد دراسته لمعنى الحرب في الفلسفة، كتب أطروحة عن « العقل التاريخي العربي » واهتم بفوكو وداريدا وفلاسفة الحداثة عموما. واصل جلال الدين سعيد العمل في اتجاه المنحى السبينوزي الذي دشنته فاطمة حداد وواصله علي الشنوفي فكتب عن سبينوزا وترجم معظم مؤلفاته، لكنه من جهة أخرى، نقّب في فلسفة الابيقوريين وكتب عن فلسفتهم. كذلك الشأن بالنسبة لصالح مصباح الذي واصل العمل في التقليد السبينوزي التونسي فاهتم بسبينوزا وهوبز، لكنه انتبه إلى مشاكل الفلسفة الحديثة العربيّة والأوروبية فكانت له فيها، على الرغم من قلة كتاباته، وجهة نظر لافته لا يجوز التقليل من شأنها.
عمد أبو يعرب المرزقي من جهته، بعد دراسته لأرسطو وأبي تيمية وابن خلدون، إلى الكتابة في مسألة العقلانية وترجم كواين وبيار دوهام إلى العربية. أما عمر الشارني فقد اهتم بالفلسفة الحديثة وكتب حول بوفون ثم ترجم ديكارت وعمل على تطوير موقف من الفارابي. ونقل محمد بن ساسي كانغيلام إلى اللغة العربيّة (ترجمة كتاب دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها جورج كانغيلام) واختص في تاريخ العلوم العربيّة. كما تمكن ناجي العونلي من تقديم فينومينولوجيا الروح بلسان عربي، ونجح هبد الرزاق بنور في نقل قضايا فتغنشتاين إلى لغة عربية بليغة وترجم عبد العزيز العيادي مارلو بونتي وعمل فتحي المسكيني على ترجمة هيدغر بعدما درس هيدقر وجادل ابن باجة وابن رشد وابن خلدون . وسعيت بدوري في مرحلة أولى إلى ترجمة غاستون باشلار وفي مرحلة ثانية غوتفريد لايبنتزالذي درسته دراسة دقيقة مهتما بفلسفة ابن رشد والرشديين.
غير أن هذا العمل الفردي والاختيار الشخصي المميّز لبحوث المتفلسفة في تونس لا يكفي لمنح فكرة دقيقة عن البحوث الفلسفيّة في بلادنا. فثمة عمل آخر بدأ يؤتي ثماره على مستوى البحث الأكاديمي والعلمي، ويتمثل في البحوث والندوات والمحاضرات والمنشورات والأعمال المشتركة بين أعضاء المدينة العلمية التونسية والأوروبية، وهو عمل وحدات البحث والمخابر. طبعا، لوحدات البحث الفلسفي مجالات عملها واختصاصها وهي تتناول كل المسائل الفلسفية الراهنة، خاصة منها المسائل الحضارية المرتبطة بثقافتنا المحليّة والتي تبين مدى حركية الدراسات الفلسفية في تونس.